قصة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام مع قومه ، قصة ملهمة لكل صاحب دعوة أو فكرة بنّاءة يريد نشرها ، ويدعو ما أمكن من العقول والألباب أن تلتفت إليها أولاً ومن ثم تدبرها ومحاولة فهمها ، وهذا ما قام به إبراهيم – عليه السلام – في مشهد تحطيم الأصنام ، كآخر المشاهد معهم ، من بعد مشاهد عدة طوال فترة دعوته لهم .
كانت من نعم الله عليه إلهامه الرشد والصواب منذ صغره ، فلم يتورط عليه السلام كبقية قومه في عبادة الأوثان أو الأجرام السماوية ، بل بدأ يتفكر في خلق السماوات والأرض منذ صغره ، ورأى ما عليه القوم من جهل وضلال وعبادة أوثان لا تضر ولا تنفع ، فأراد أن يبين لهم ذلك ، لكن السؤال: كيف له إقامة الحجة عليهم ، وهم على فعلتهم تلك سنوات وسنوات ؟!
بدأ بمشهد النظر إلى السماء كما جاء في القرآن ( فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي ، فلما أفل قال لا أحب الآفلين ) إلى آخر الآيات ، أراهم كوكب الزهرة وأشار إليه وقال: هذا ربي ، حتى إذا اختفى وظهر القمر ، قال: هذا هو ربي ، فاختفى القمر أيضاً مع بزوغ الفجر ، فانتظر قليلاً حتى رأى الشمس تشرق ، فقال: هذا ربي ، هذا أكبر ، وانتظر حتى حان وقت الغروب لتختفي الشمس أيضاً .. هنالك وجد إبراهيم – عليه السلام – فرصة مناسبة ليقيم الحجة على قومه ، معلناً بأن الإله الحق هو الله ، الذي لا يختفي ولا يموت إلى آخر المشهد ، كما جاء في كتب التفسير .
أراد إبراهيم – عليه السلام – أن ” يستدرج القوم بهذا القول – كما جاء في تفسير البغوي – ويعرّفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظموه ، وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ، ويرون أن الأمور كلها إليها ، فأراهم أنه معهم كذلك ، ومعظّمٌ ما عظموه ، وملتمسٌ الهدى من حيث ما التمسوه ، فلما أفل أراهم النقص الداخل على النجوم ليثبت خطأ ما يدّعون “ .
والله لأكيدن لأصنامكم
لم يقتنع القوم بمشهد الأجرام السماوية وانفضوا عنه ، فقرر الانتقال بهم إلى مشهد آخر ، وانتظر فرصة أخرى ، فكانت في يوم عيد لهم ، كما قال السدي في تفسيره ، حيث ” كان لهم في كل سنة مجمع وعيد ، وكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ، ثم عادوا إلى منازلهم ، فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم له: يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا ، فخرج معهم إبراهيم ، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه ، وقال إني سقيم ، يقول: أشتكي رجلي ، فلما مضوا نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس قال: ( وتالله لأكيدن أصنامكم ) فسمعوها منه، ومضى المحتفلون بالعيد في حال سبيلهم .
بعد أن انغمس الناس في احتفالاتهم ، قام إبراهيم – عليه السلام – واتجه إلى بيت الآلهة ، حيث يستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جانبه صنم أصغر منه ، وكانت الأصنام بعضها إلى جنب بعض ، كل صنم يليه أصغر منه ، ورأى طعاماً بين يدي تلك الأصنام قد تركها الناس لتباركها الآلهة ، ثم يعودون تارة أخرى ليأكلوها بعد المباركة !! فنظر إليهم إبراهيم وإلى ما بين أيديهم من الطعام ، فقال لهم مستهزئاً : ألا تأكلون ؟! فلما لم تجبه قال: ما لكم لا تنطقون ؟! ( فراغ عليهم ضرباً باليمين ) وجعل يكسرهن إلا الصنم الأكبر ، علق الفأس في عنقه ثم خرج .
الظالم حين يفلس
هال القوم منظر آلهتهم المحطمة إلا كبيرهم ، وتساءلوا عن الفاعل ، حتى تردد اسم إبراهيم – عليه السلام – بينهم وبشكل فيه تقليل شأن واستصغار لقيمته – عليه السلام – حين سألهم ملكهم نمرود عن الفاعل ( قالوا سمعنا فتى يذكُرُهم يُقال له إبراهيم ) ، سمعنا عن شاب يدعى إبراهيم ، إشارة إلى أنه لم يكن معروفاً وذا شأن في القوم ، لكنهم سمعوا أنه يستهزأ بآلهتنا ويسبها ويتوعدها بأمر ما ، فربما هو الذي قام بهذا العمل الإجرامي !!
هكذا استقر الأمر في وجدان القوم واقتنعوا به ، فقرر الملك استدعاء إبراهيم ، لتجري المحاورة الشهيرة بينه وبينهم والتي أقام خلالها الحجة عليهم ، ليتبين لهم في النهاية، تفاهة عقولهم ، ويمكنك الرجوع إلى تفسير سورة الأنبياء لتفاصيل القصة إن أحببت .
بعد إقامة الحجة الدامغة عليهم ، هل انتهوا عن ضلالهم وإضلالهم ؟! بالطبع لا ، فأنّى للظالم ومن معه من منتفعين على شكل ساسة وكهنة وأصحاب مصالح ، الاعتراف بالخطأ الذي كان واضحاً جلياً في وجدانهم ، وإن بدا ظاهرهم أنهم مع الملك نمرود ، أو مع كل ما يبقي على مصالحهم .
كانت حيلتهم للخروج من ذلكم المأزق الذي وضعهم إبراهيم فيه ، وكعادة الظلمة في كل زمان ومكان ، هو التخلص منه ، لوأد فكرته ودعوته قبل أن تنتشر وتتوسع ، ولإرهاب من تسول له نفسه النيل مما هم عليه من معتقدات وأفكار ، وإن كانت بالية تافهة ، ثم كان القرار الحاسم ، إحراق إبراهيم في نار عظيمة يشترك الجميع في جمع حطبها ، فبدأ الجميع تنفيذ ما قرره نمرود ، ليتفاجأ هذا الجمع بمعجزة تقع أمامهم لن تتكرر تارة أخرى في عالم البشر ، وقد احتشدوا لرؤية إبراهيم وهو يحترق في نارهم ، لتكون حجة أخرى أخيرة عليهم ، تؤكد صدق إبراهيم في دعوته .
بل ران على قلوبهم
لكن هيهات هيهات أن تتأثر قلوب ران عليها ما كانوا يكسبون ، كما في الحديث الصحيح: إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر ، صقل قلبه منها ، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه ( كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) ، انتهى المشهد بنجاة إبراهيم الخليل – عليه السلام – الذي جعل الله النار عليه برداً وسلاما ، فخرج ولم تحترق إلا الحبال التي تم ربطه بها في مشهد مخالف للسنن والقوانين الطبيعية ، ومع ذلك كله ، لم يؤمن أولئك القوم !!
خلاصة ما يمكن به ختم هذا الحديث ، أن أصحاب الدعوات هم هكذا ، ثبات على طريق الحق ، في صراع مستمر لا يتوقف مع أصحاب الفكر المشوش والمغلوط أو العقائد الفاسدة ، صراع قد تضطر في إحدى مراحله أن تكسر وتحطم أوثان الباطل بصورة وأخرى ، ضمن مشاهد متنوعة تجد أن كل فريق يسعى لإقامة الحجة على الآخر بطريقة وأخرى ، فهكذا هي مشاهد الصراع بين الحق والباطل في كل زمان ومكان ، الفريقان لا يعرفان اليأس ، لكن ما يميز فريق الحق أن حججه دامغة حاسمة ، مقابل حجج للباطل ، خادعة كاذبة خاطئة ، والعاقلُ من ينظر لعاقبته ، ولا يغترُّ بعجالته ، كما قال أبو حامد الغزالي ، فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .